فصل: تفسير الآيات (20- 30):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارك التنزيل وحقائق التأويل بـ «تفسير النسفي» (نسخة منقحة).



.تفسير الآيات (1- 19):

{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)}
{تبارك} تعالى وتعاظم عن صفات المخلوقين {الذى بِيَدِهِ الملك} أي بتصرفه الملك والاستيلاء على كل موجود وهو مالك الملك يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء {وَهُوَ على كُلّ شَئ} من المقدورات أو من الإنعام والانتقام {قَدِيرٌ} قادر على الكمال {الذى خَلَقَ الموت} خبر مبتدأ محذوف أو بدل من الذي قبله {والحياة} أي ما يصح بوجوده الإحساس والموت ضده، ومعنى خلق الموت والحياة إيجاد ذلك المصحح وإعدامه، والمعنى خلق موتكم وحياتكم أيها المكلفون {لِيَبْلُوَكُمْ} ليمتحنكم بأمره ونهيه فيما بين الموت الذي يعم الأمير والأسير والحياة التي لا تفي بعليل ولا طبيب فيظهر منكم ما علم أنه يكون منكم فيجازيكم على عملكم لا على علمه بكم {أَيُّكُمْ} مبتدأ وخبره {أَحْسَنُ عَمَلاً} أي أخلصه وأصوبه، فالخالص أن يكون لوجه الله، والصواب أن يكون على السنة. والمراد أنه أعطاكم الحياة التي تقدرون بها على العمل، وسلط عليكم الموت الذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح فما وراءه إلا البعث والجزاء الذي لابد منه. وقدم الموت على الحياة لأن أقوى الناس داعياً إلى العمل من نصب موته بين عينيه، فقدم لأنه فيما يرجع إلى المسوق له الآية أهم. ولما قدم الموت الذي هو أثر صفة القهر على الحياة التي هي أثر اللطف، قدم صفة القهر على صفة اللطف بقوله {وَهُوَ العزيز} أي الغالب الذي لا يعجزه من أساء العمل {الغفور} الستور الذي لا ييأس منه أهل الإساءة والزلل.
{الذى خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقًا} مطابقة بعضها فوق بعض من طابق النعل إذا خصفها طبقاً على طبق، وهذا وصف بالمصدر، أو على ذات طباق أو على طوبقت طباقاً. وقيل: جمع طبق كجمال وجمال. والخطاب في {مَّا ترى في خَلْقِ الرحمن} للرسول أو لكل مخاطب {مِن تفاوت} {تَفَوُتٍ} حمزة وعلي. ومعنى البناءين واحد كالتعاهد والتعهد أي من اختلاف واضطراب. وعن السدي: من عيب. وحقيقة التفاوت عدم التناسب كأن بعض الشيء يفوت بعضاً ولا يلائمه، وهذه الجملة صفة ل {طِبَاقاً} وأصلها ما ترى فيهن من تفاوت، فوضع {خَلْقِ الرحمن} موضع الضمير تعظيماً لخلقهن وتنبيهاً على سبب سلامتهن من التفاوت، وهو أنه خلق الرحمن وأنه بباهر قدرته هو الذي يخلق مثل ذلك الخلق المتناسب {فارجع البصر} رده إلى السماء حتى يصح عندك ما أخبرت به بالمعاينة فلا تبقى معك شبهة فيه {هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} صدوع وشقوق جمع فطر وهو الشق {ثُمَّ اْرجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} كرر النظر مرتين أي كرتين مع الأولى.
وقيل: سوى الأولى فتكون ثلاث مرات. وقيل: لم يرد الاقتصار على مرتين بل أراد به التكرير بكثرة أي كرر نظرك ودققه هل ترى خللاً أو عيباً. وجواب الأمر {يَنقَلِبَ} يرجع {إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئًا} ذليلاً أو بعيداً مما تريد وهو حال من البصر {وَهُوَ حَسِيرٌ} كليل معي ولم ير فيها خللاً.
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا} القربى أي السماء الدنيا منكم {بمصابيح} بكواكب مضيئة كإضاءة الصبح، والمصابيح السرج فسميت بها الكواكب، والناس يزينون مساجدهم ودورهم بإيقاد المصابيح. فقيل: ولقد زينا سقف الدار التي اجتمعتم فيها بمصابيح أي بأي مصابيح لا توازيها مصابيحكم إضاءة {وجعلناها رُجُوماً للشياطين} أي لأعدائكم الذين يخرجونكم من النور إلى الظلمات، قال قتادة: خلق الله النجوم لثلاث زينة للسماء ورجوماً للشياطين وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها غير ذلك فقد تكلف ما لا علم له به. والرجوم جمع رجم وهو مصدر سمي به ما يرجم به. ومعنى كونها رجوماً للشياطين أن ينفصل عنها شهاب قبس يؤخذ من نار فيقتل الجني أو يخبله، لأن الكواكب لا تزول عن أماكنها لأنها قارة في الفلك على حالها {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} للشياطين {عَذَابَ السعير} في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.
{وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} ولكل من كفر بالله من الشياطين وغيرهم {عَذَابُ جَهَنَّمَ} ليس الشياطين المرجومون مخصوصون بذلك {وَبِئْسَ المصير} المرجع جهنم {إِذَا أُلْقُواْ فِيهَا} طرحوا في جهنم كما يطرح الحطب في النار العظيمة {سَمِعُواْ لَهَا} لجهنم {شَهِيقًا} صوتاً منكراً كصوت الحمير شبه حسيسها المنكر الفظيع بالشهيق {وَهِىَ تَفُورُ} تغلي بهم غليان المرجل بما فيه {تَكَادُ تَمَيَّزُ} أي تتميز يعني تتقطع وتتفرق {مِنَ الغيظ} على الكفار فجعلت كالمغتاظة عليهم استعارة لشدة غليانها بهم.
{كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ} جماعة من الكفار {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} مالك وأعوانه من الزبانية توبيخاً لهم {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رسول يخوفكم من هذا العذاب {قَالُواْ بلى قَدْ جَاءنَا نَذِيرٌ} اعتراف منهم بعدل الله وإقرار بأنه تعالى أزاح عللهم ببعث الرسل وإنذارهم ما وقعوا فيه {فَكَذَّبْنَا} أي فكذبناهم {وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَئ} مما يقولون من وعد ووعيد وغير ذلك {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ في ضلال كَبِيرٍ} أي قال الكفار للمنذرين: ما أنتم إلا في خطأ عظيم. فالنذير بمعنى الإنذار. ثم وصف به منذروهم لغلوهم في الإنذار كأنهم ليسوا إلا إنذاراً، وجاز أن يكون هذا كلام الخزنة للكفار عن إرادة القول ومرادهم بالضلال الهلاك، أو سموا جزاء الضلال باسمه كما سمي جزاء السيئة والاعتداء سيئة واعتداء ويسمى المشاكلة في علم البيان، أو كلام الرسل لهم حكوه للخزنة أي قالوا لنا هذا فلم نقبله {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} الإنذار سماع طالب الحق {أَوْ نَعْقِلُ} أي نعقله عقل متأمل {مَا كُنَّا في أصحاب السعير} في جملة أهل النار، وفيه دليل على أن مدار التكليف على أدلة السمع والعقل وأنهما حجتان ملزمتان {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} بكفرهم في تكذيبهم الرسل {فَسُحْقًا لأصحاب السعير} وبضم الحاء: يزيد وعلي، فبعداً لهم عن رحمة الله وكرامته اعترفوا أو جحدوا فإن ذلك لا ينفعهم.
وانتصابه على أنه مصدر وقع موقع الدعاء.
{إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب} قبل معاينة العذاب {لَهُم مَّغْفِرَةٌ} للذنوب {وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي الجنة {وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ} ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإسرار والإجهار، ومعناه ليستو عندكم إسراركم وإجهاركم في علم الله بهما. رُوي أن مشركي مكة كانوا ينالون من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبره جبريل بما قالوه فيه ونالوه منه فقالوا فيما بينهم: أسروا قولكم لئلا يسمع إله محمد فنزلت. ثم علله بقوله {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي بضمائرها قبل أن تترجم الألسنة عنها فكيف لا يعلم ما تكلم به؟ {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} (من) في موضع رفع بأنه فاعل {يَعْلَم} {وَهُوَ اللطيف الخبير} أنكر أن لا يحيط علماً بالمضمر والمسر والمجهر من خلقها وصفته أنه اللطيف أي العالم بدقائق الأشياء الخبير العالم بحقائق الأشياء، وفيه إثبات خلق الأقوال فيكون دليلاً على خلق أفعال العباد. وقال أبو بكر بن الأصم وجعفر بن حرب: {مَنْ} مفعول والفاعل مضمر وهو الله تعالى فاحتالا بهذا لنفي خلق الأفعال.
{هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} لينة سهلة مذللة لا تمنع المشي فيها {فامشوا في مَنَاكِبِهَا} جوانبها استدلالاً واسترزاقاً أو جبالها أو طرقها {وَكُلُواْ مِن رّزْقِهِ} أي من رزق الله فيها {وَإِلَيْهِ النشور} أي وإليه نشوركم فهو سائلكم عن شكر ما أنعم به عليكم {ءامِنْتُمْ مَّن في السماء} أي من ملكوته في السماء لأنها مسكن ملائكته ومنها تنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونواهيه فكأنه قال: أأمنتم خالق السماء وملكه، أو لأنهم كانوا يعتقدون التشبيه وأنه في السماء، وأن الرحمة والعذاب ينزلان منه فقيل لهم على حسب اعتقادهم: أأمنتم من تزعمون أنه في السماء وهو متعالٍ عن المكان {أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض} كما خسف بقارون {فَإِذَا هي تَمُورُ} تضطرب وتتحرك {أَمْ أَمِنتُمْ مّن في السماء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصبا} حجارة أن يرسل بدل من بدل الاشتمال وكذا {أَن يَخْسِفَ} {فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} أي إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري حين لا ينفعكم العلم {وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} من قبل قومك {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي إنكاري عليهم إذ أهلكتهم.
ثم نبه على قدرته على الخسف وإرسال الحاصب بقوله {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير} جمع طائر {فَوْقَهُمْ} في الهواء {صافات} باسطات أجنحتهن في الجو عند طيرانهن {وَيَقْبِضْنَ} ويضممنها إذا ضربن بها جنوبهن. و{يقبضن} معطوف على اسم الفاعل حملاً على المعنى أي يصففن ويقبضن، أو صافات وقابضات. واختيار هذا التركيب باعتبار أن أصل الطيران هو صف الأجنحة، لأن الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، والهواء للطائر كالماء للسابح. والأصل في السباحة مد الأطراف وبسطها، وأما القبض فطارئ على البسط للاستظهار به على التحرك فجيء بما هو طارئ بلفظ الفعل على معنى أنهن صافات ويكون منهن القبض تارة بعد تارة كما يكون من السابح {مَا يُمْسِكُهُنَّ} عن الوقوع عند القبض والبسط {إِلاَّ الرحمن} بقدرته وإلا فالثقيل يتسفل طبعاً ولا يعلو، وكذا لو أمسك حفظه وتدبيره عن العالم لتهافتت الأفلاك و{مَا يُمْسِكُهُنَّ} مستأنف وإن جعل حالاً من الضمير في {يقبضن} يجوز {إِنَّهُ بِكُلِّ شَئ بَصِيرٌ} يعلم كيف يخلق وكيف يدبر العجائب.

.تفسير الآيات (20- 30):

{أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)}
{أَمَّنْ} مبتدأ خبره {هذا} ويبدل من {هذا} {الذى هُوَ جُندٌ لَّكُمْ} ومحل {يَنصُرُكُمْ مّن دُونِ الرحمن} رفع نعت ل {جُندٌ} محمول على اللفظ والمعنى من المشار إليه بالنصر غير الله تعالى: {إِنِ الكافرون إِلاَّ في غُرُورٍ} أي ما هم إلا في غرور {أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} أم من يشار إليه ويقال هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه وهذا على التقدير، ويجوز أن يكون إشارة إلى جميع الأوثان لاعتقادهم أنهم يحفظون من النوائب ويرزقون ببركة آلهتهم فكأنهم الجند الناصر والرازق. فلما لم يتعظوا أضرب عنهم فقال: {بَل لَّجُّواْ} تمادوا {فِى عُتُوٍّ} استكبار عن الحق {وَنُفُورٍ} وشراد عنه لثقله عليهم فلم يتبعوه. ثم ضرب مثلاً للكافرين والمؤمنين فقال: {أَفَمَن يَمْشِى مُكِبّاً على وَجْهِهِ} أي ساقطاً على وجهه يعثر كل ساعة ويمشي معتسفاً وخبر من {أهدى} أرشد. فأكب مطاوع كبه يقال: كببته فأكب {أَمَّن يَمْشِى سَوِيّاً} مستوياً منتصباً سالماً من العثور والخرور {على صراط مُّسْتَقِيمٍ} على طريق مستوٍ. وخبر {منْ} محذوف لدلالة {أهدى} عليه، وعن الكلي: عني بالمكب أو جهل، وبالسوي النبي عليه السلام {قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ} خلقكم ابتداء {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} خصها لأنها آلات العلم {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} هذه النعم لأنكم تشركون بالله ولا تخلصون له العبادة، والمعنى تشكرون شكراً قليلاً و(ما) زائدة. وقيل: القلة عبارة عن العدم {قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ} خلقكم {فِى الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} للحساب والجزاء.
{وَيَقُولُونَ} أي الكافرون للمؤمنين استهزاء {متى هذا الوعد} الذي تعدوننا به يعني العذاب {إِن كُنتُمْ صادقين} في كونه فأعلمونا زمانه {قُلْ إِنَّمَا العلم} أي علم وقت العذاب {عِندَ الله وَإِنَّمَا أَنَاْ نَذِيرٌ} مخوّف {مُّبِينٌ} أبين لكم الشرائع {فَلَمَّا رَأَوْهُ} أي الوعد يعني العذاب الموعود {زُلْفَةً} قريباً منهم وانتصابها على الحال {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} أي ساءت رؤية الوعد وجوههم بأن علتها الكآبة والمساءة وغشيتها القتَرة والسواد {وَقِيلَ هذا الذى} القائلون الزبانية {كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ} تفتعلون من الدعاء أي تسألون تعجيله وتقولون ائتنا بما تعدنا، أو هو من الدعوى أي كنتم بسببه تدعون أنكم لا تبعثون وقرأ يعقوب {تَدْعُونَ}.
{قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِىَ الله} أي أماتني الله كقوله {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176] {وَمَن مَّعِىَ} من أصحابي {أَوْ رَحِمَنَا} أو أخر في آجالنا {فَمَن يُجِيرُ} ينجي {الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} مؤلم. كان كفار مكة يدعون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين بالهلاك فأمر بأن يقول لهم: نحن مؤمنون متربصون لإحدى الحسنيين، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة عليكم متربصون لإحدى الحسنيين، إما أن نهلك كما تتمنون فتقلب إلى الجنة، أو نرحم بالنصرة عليكم كما نرجو، فأنتم ما تصنعون مِنْ مجيركم وأنتم كافرون من عذاب النار لابد لكم منه {قُلْ هُوَ الرحمن} أي الذي أدعوكم إليه الرحمن {ءَامَنَّا بِهِ} صدقنا به ولم نكفر به كما كفرتم {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا} فوضنا إليه أمورنا {فَسَتَعْلَمُونَ} إذا نزل بكم العذاب وبالياء: علي {مَنْ هُوَ في ضلال مُّبِينٍ} نحن أم أنتم {قُلْ أَرَءيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً} غائراً ذاهباً في الأرض لا تناله الدلاء، وهو وصف بالمصدر كعدل بمعنى عادل {فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَّعِينٍ} جارٍ يصل إليه من أراده.
وتليت عند ملحد فقال: يأتي بالمعول والمعن فذهب ماء عينه في تلك الليلة وعمي. وقيل: إنه محمد بن زكريا المتطبب زادنا الله بصيرة.

.سورة القلم:

مكية وهي اثنتان وخمسون آية.

.تفسير الآيات (1- 20):

{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20)}
{ن} الظاهر أن المراد به هذا الحرف من حروف المعجم. وأما قول الحسن: إنه الدواة، وقول ابن عباس: إنه الحوت الذي عليه الأرض واسمه بهموت، فمشكل لأنه لابد له من الإعراب سواء كان اسم جنس أو اسم علم، فالسكون دليل على أنه من حروف المعجم {والقلم} أي ما كتب به اللوح، أو قلم الملائكة، أو الذي يكتب به الناس، أقسم به لما فيه من المنافع والفوائد التي لا يحيط بها الوصف {وَمَا يَسْطُرُونَ} أي ما يسطره الحفظة أو ما يكتب به من الخير من كتب. و(ما) موصولة أو مصدرية، وجواب القسم {مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبّكَ} أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها ف {أَنتَ} اسم (ما) وخبرها {بِمَجْنُونٍ} و{بِنِعْمَةِ رَبّكَ} اعتراض بين الاسم والخبر، والباء في {بِنِعْمَةِ رَبّكَ} تتعلق بمحذوف ومحله النصب على الحال والعامل فيها {بِمَجْنُونٍ} وتقديره: ما أنت بمجنون منعماً عليك بذلك. ولم تمنع الباء أن يعمل مجنون فيما قبله لأنها زائدة لتأكيد النفي وهو جواب قولهم {وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الذي نُزّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] {وَإِنَّ لَكَ} على احتمال ذلك والصبر عليه {لأَجْرًا} لثواباً {غَيْرَ مَمْنُونٍ} غير مقطوع أو غير ممنون عليك به {وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قيل: هو ما أمره الله تعالى به في قوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199]. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان خلقه القرآن أي ما فيه من مكارم الأخلاق. وإنما استعظم خلقه لأنه جاد بالكونين وتوكل على خالقهما.
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} أي عن قريب ترى ويرون وهذا وعد له ووعيد لهم {بِأَيِيّكُمُ المفتون} المجنون لأنه فتن أي محن بالجنون، والباء مزيدة، أو المفتون مصدر كالمعقول أي بأيكم الجنون. وقال الزجاج: الباء بمعنى (في) تقول: كنت ببلد كذا أي في بلد كذا، وتقديره في أيكم المفتون أي في أي الفريقين منكم المجنون: فريق الإسلام أو فريق الكفر؟ {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ} أي هو أعلم بالمجانين على الحقيقة وهم الذين ضلوا عن سبيله {وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} أي هو أعلم بالعقلاء هم والمهتدون {فَلاَ تُطِعِ المكذبين} تهييج للتصميم على معاصاتهم وقد أرادوه على أن يعبد الله مدة وآلهتهم مدة ويكفوا عنه غوائلهم {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ} لو تلين لهم {فَيُدْهِنُونَ} فيلينون لك. ولم ينصب بإضمار (أن) وهو جواب التمني لأنه عدل به إلى طريق آخر، وهو أن جعل خبر مبتدأ محذوف أي فهم يدهنون أي فهم الآن يدهنون لطمعهم في ادهانك.
{وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ} كثير الحلف في الحق والباطل وكفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف {مَّّهِينٍ} حقير في الرأي والتمييز من المهانة وهي القلة والحقارة، أو كذاب لأنه حقير عند الناس {هَمَّازٍ} عياب طعان مغتاب {مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} نقال للحديث من قوم إلى قوم على وجه السعاية والإفساد بينهم، والنميم والنميمة: السعاية {مَّنَّاعٍ لّلْخَيْرِ} بخيل، والخير: المال أو مناع أهله من الخير وهو الإسلام، والمراد الوليد بن المغيرة عند الجمهور وكان يقول لبنيه العشرة: من أسلم منكم منعته رفدي {مُعْتَدٍ} مجاوز في الظلم حده {أَثِيمٍ} كثير الآثام {عُتُلٍ} غليظ جاف {بَعْدَ ذَلِكَ} بعدما عد له من المثالب {زَنِيمٍ} دعي. وكان الوليد دعياً في قريش ليس من سنخهم، ادعاه أبوه بعد ثمان عشرة سنة من مولده. وقيل: بغت أمه ولم يعرف حتى نزلت هذه الآية، والنطفة إذا خبثت الناشئ منها. رُوي أنه دخل على أمه وقال: إن محمداً وصفني بعشر صفات، وجدت تسعاً فيّ، فأما الزنيم فلا علم لي به، فإن أخبرتني بحقيقته وإلا ضربت عنقك. فقالت: إن أباك عنين وخفت أن يموت فيصل ماله إلى غير ولده فدعوت راعياً إلى نفسي فأنت من ذلك الراعي.
{أَن كَانَ ذَا مَالٍ} متعلق بقوله {وَلاَ تُطِعِ} أي ولا تطعه مع هذه المثالب لأن كان ذا مال أي ليساره وحظه من الدنيا، ويجوز أن يتعلق بما بعده أي لأن كان ذا مال {وَبَنِينَ} كذب بآياتنا يدل عليه {إِذَا تتلى عَلَيْهِ ءاياتنا} أي القرآن {قَالَ أساطير الأولين} ولا يعمل فيه {قَالَ} لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. {أأن} حمزة وأبو بكر أي ألأن كان ذا مال كذب؟ {أأن} شامي ويزيد ويعقوب وسهل. قالوا: لما عاب الوليد النبي صلى الله عليه وسلم كاذباً باسم واحد وهو المجنون سماه الله تعالى بعشرة أسماء صادقاً، فإن كان من عد له أن يجزي المسيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة، كان من فضله أن من صلى عليه واحدة صلى الله عليه بها عشراً {سَنَسِمُهُ} سنكويه {عَلَى الخرطوم} على أنفه مهانة له وعلماً يعرف به، وتخصيص الأنف بالذكر لأن الوسم عليه أبشع. وقيل: خطم بالسيف يوم بدر فبقيت سمة على خرطومه.
{إِنَّا بلوناهم} امتحنا أهل مكة بالقحط والجوع حتى أكلوا الجيف والرمم بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: «اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها سنين كسني يوسف» {كَمَا بَلَوْنَا أصحاب الجنة} هم قوم من أهل الصلات كانت لأبيهم هذه الجنة بقرية يقال لها ضروان وكانت على فرسخين من صنعاء، وكان يأخذ منها قوت سنته ويتصدق بالباقي على الفقراء.
فلما مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر ونحن أولو عيال، فحلفوا ليصرمنها مصبحين في السدف خيفة من المساكين ولم يستثنوا في يمينهم، فأحرق الله جنتهم. وقال الحسن: كانوا كفاراً. والجمهور على الأول {إِذْ أَقْسَمُواْ} حلفوا {لَيَصْرِمُنَّهَا} ليقطعن ثمرها {مُّصْبِحِينَ} داخلين في الصبح قبل انتشار الفقراء، حال من فاعل {لَيَصْرِمُنَّهَا} {وَلاَ يَسْتَثْنُونَ} ولا يقولون إن شاء الله. وسمي استثناء وإن كان شرطاً صورة لأنه يؤدي مؤدي الاستثناء من حيث إن معنى قولك (لأخرجن إن شاء الله) و(لا أخرج إلا أن يشاء الله) واحد {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ} نزل عليها بلاء. قيل: أنزل الله تعالى عليها ناراً فأحرقتها {وَهُمْ نَائِمُونَ} أي في حال نومهم {فَأَصْبَحَتْ} فصارت الجنة {كالصريم} كالليل المظلم أي احترقت فاسودت، أو كالصبح أي صارت أرضاً بيضاء بلا شجر. وقيل: كالمصرومة أي كأنها صرمت لهلاك ثمرها.